23 نوفمبر 2016

زهير كمال يكتب: الكنيسة الفلسطينية وصناعة التاريخ

من منا لا يتذكر عيسى العوام ، هذا الفلسطيني الذي حارب مع صلاح الدين ضد الغزاة الصليبيين!
عيسى العوام فلسطيني يدين بالمسيحية ولكنه يؤمن أن الصليبيين القادمين من أوروبا، ( كان أجدادنا يطلقون عليهم اسم الفرنجة وهي التسمية الصحيحة) رغم أنهم يدينون بنفس الديانة إلا أنهم غزاة ، لا يفرقون بين مسلم ومسيحي من أصحاب الأرض.
عندما دخل الفرنجة القدس في العام 1099 ميلادي أعملوا قتلاً وتذبيحاً في أهلها فقتلوا سبعين ألفاً من سكانها لم يفرقوا بينهم ولم يقسموهم حسب الدين أو الفئة العمرية.
وكيف لسكان فلسطين ومنهم عيسى عام 1187 م أن ينسوا هذه الواقعة والتي كان قد مر عليها قرابة 88 عاماً آنذاك ، فحاربوا بكل قواهم وانتصروا وطردوا المحتل الغازي.
عيسى العوام محارب شجاع وقد ضحى بحياته من أجل فلسطين ، ومن الطريف ذكره أن كل طائفة تحب أن تنسب هذا البطل لنفسها كما ورد في النوادر السلطانية، فقد ضرب المثل في الشجاعة والأمانة.
في عام 2016 قام المحتل الإسرائيلي بمنع الأذان في المسجد الاقصى ، فقام القساوسة المسيحيون بالأذان في كنائسهم ، في واقعة تسجل لأول مرة في أية كنيسة في العالم . والقسيسون عادة لا يتدخلون في شؤون الدنيا والسياسة ويكرسون جل حياتهم للعبادة والخدمة العامة، ولكن عملهم هذا، رغم بساطته وعفويته ، إنما يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، وستظل الأجيال القادمة تتذكر هذا الحدث.
ولا بد وأن يفكر طويلاً كل من يحاول فصم هذه العلاقة أو حتى محاولة تكديرها، فهي راسخة في جينات الفلسطيني عندما أرسى دعائمها عمر بن الخطاب وسوفرونيوس بطريرك القدس في العام 637 ميلادية ، أي قبل ألف وأربعمائة عام. وترجمها الاثنان الى ما يعرف بالعهدة العمرية التي تعتبر مثالاً في التعايش بين الديانتين.
دخلت روح العهدة العمرية عميقاً في ضمير ووعي الفلسطيني سواء كان مسيحياً أم مسلماً، وستستمر الى الأبد ، فالدين لله والوطن للجميع. وسار أمراء الكنيسة الفلسطينية على خطى المسيح، الفلسطيني الأول ، المضطهد والمظلوم الأول ووقفوا مع شعبهم في محنته .
من منا لا يذكر كيف ضرب المطران الفدائي إيلاريون كبوجي المثل في مقاومة الاحتلال وكلفه ذلك السجن ثم المنفى القسري عن بلاده؟
أما المطران عطالله حنا فهو صوت الشعب الفلسطيني بلا منازع ، ولا ننسى ذكر الأب مانويل مسلم (أطال الله عمره) أسقف غزة الذي قاوم الاحتلال وقاسم أهلها شقاءهم وجوعهم.
لن ينسى مقاوموا فلسطين حصار كنيسة المهد في بيت لحم عندما لجأوا إليها فأبت الرضوخ لطلب الصهاينة بتسليمهم رغم محاصرتها وضربها بالرصاص في ظل صمت الغرب المنافق وهو يرى الاعتداء الصهيوني على مهد المسيح فلا يحرك ساكناً ولا حتى بالاستنكار .
وها نحن نرى قساوسة الكنيسة يسيرون على نفس الدرب في مقاومة العدو. فقد أضاءوا بعملهم هذا شمعة في ظلام المنطقة المصابة بمرض خبيث لأول مرة في تاريخها، مرض الطائفية والمذهبية والمللية.
وهذا المرض قد تم دس ميكروباته ببطء ودهاء في هذه المجتمعات المسالمة التي تؤمن بالتعايش وقبول الآخر منذ زمن طويل ، وإلا لما وصلنا الى هذه الفسيفساء في تركيبة شعوب المنطقة : عرباً ، أمازيغ، أكراداً ، مسلمين بكل تفرعاتهم من سنة وشيعة وأباضيين وزيديين ودروز وعلويين ، ومسيحيين بكل تفرعاتهم من كاثوليك وبروتستانت وأرذوكس وأقباط .
في الوقت الذي كانت فيه دول أوروبا تتحول الى إثنيات عرقية دينية في حروب التطهير الديني والعرقي تمخضت في أن فرنسا مثلاً يعيش فيها فرنسيون أقحاح يدينون بالكاثوليكية، أما ألمانيا فهي دولة الألمان الأقحاح الذين يدينون بالبروتستنتية، وقس على ذلك باقي دول القارة.
بدأ هذا المخطط منذ أربعين عاماً تقريباً أي منذ اتفاقية كامب دافيد بين مصر وإسرائيل في العام 1978.
بداية كان العمل على تجهيل شعوب المنطقة ، فزادت نسبة الأمية في المجتمعات بدلاً من القضاء عليها، فالجهل هو التربة الخصبة لزراعة الفتنة وتوجيه الشعوب وجرها الى مستنقع البغضاء والفرقة.
ولعلنا لا ننسى مثلاً فاضحاً هو تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية بهدف بث الفرقة بين الأقباط والمسلمين والتي كشفت التحريات تورط نظام مبارك في تدبيرها. ولا ننسى كيف بدأت قبل سنوات على استحياء ذكر مقولة الهلال الشيعي والتحذير من الغول الشيعي الذي سيبتلع السنة.
وبدلاً من توظيف مال النفط للتنمية الحقيقية ورفع مستوى شعوب المنطقة في كل النواحي فقد ذهب وما يزال في الشحن الطائفي.
والشعب الفلسطيني، لا يعيش في جزيرة منعزلة بعيداً عن مؤثرات البرمجة الإعلامية الهادفة الى غسل مخ البشر وتوجيههم للفتنة والاقتتال الداخلي ، بل هو جزء من شعوب المنطقة التي لا يراد لها أن تستيقظ وأن تضع أُصبعها على الجرح المسبب لهذا النزيف القاتل. 
وكان فعل القساوسة ضربة معلم جاءت في الوقت المناسب، فقد ألغوا بحركة بسيطة عشرات السنين من تخطيط أعداء الشعوب، ولم يعد هناك مجال لهؤلاء الجهلة الذين ينادون بتكفير غير المسلم.
لا نملك سوى القول شكراً لهؤلاء القساوسة فقد أضافوا إنجازاً عظيماً ضمن إنجازات الأفراد الفلسطينيين هذا العام ، ولهم كل التحية والتقدير فقد علمونا درساً في الوطنية الحقة.

19 نوفمبر 2016

سيد أمين يكتب : ماذا بعد ثورة الغلابة؟

* نقلا عن هافنجتون بوست
قد لا يحدث شيء في مصر جراء ما سمّوها "ثورة الغلابة"، ولكن في المقابل لا أحد يستطيع أن يجزم بما قد يحدث في مصر خلالالأيام القادمة وبعدَ فشل ثورة الغلابة التي لم يحضرها أحد، فالأوضاع تتقلب انهياراً بشكل سريع لا يخفى على أحد، ولا داعي لمزيد من القول فيه.

لكن ثمة حقائق صارت محسومة على الأقل شعبياً في هذه الأجواء المشحونة بالترقب والأمل والشك والخوف، مفادها أن بقاء الحال هو المحال، وأن النهاية الطبيعية لهذا الطقس إما التغيير طوعاً أو البتر من الجذور، خصوصاً أنه ما عادت أسحار الرجل الإعلامية تجدي نفعاً أو تقنع أحداً من أتباعه مجدداً بضرورة أن يعاني الفقير منهم من أجل أن يبقى الوطن.


ربما كانت تلك الأسحار مجدية حينما أقنعت بعض ضعاف النفوس منهم في لحظات مُرة من تاريخ هذا النظام بأنه يجب أن يموت غيرهم لكي يحيا الوطن، لكن حينما طالت نار الظلم ملابسهم هم كفروا بهذا المفهوم عن الوطن دون تردد.

عموماً قد لا يتحرك الناس في ثورة الغلابة، ولكن ذلك لا يعني أنهم راضون عن أداء تلك السلطة، ولا يعني أيضاً أنهم لن يتحركوا ضدها مستقبلاً، هي فقط مسألة وقت في رأيي.


ثورة الغلابة.. لماذا كنا نحتاجها؟


بالتعرض لنماذج من النقاشات الدائرة في كل ربوع مصر حول الحاجة لحراك جماعي يفرمل تغوُّلَ النظام الحاكم في دهسه للفقراء وكبحه للحريات، وبالإجابة عن التساؤلات حول مبررات اتخاذ السلطة للإجراءات الاقتصادية العنيفة قبل "ثورة الغلابة"، وليس بعدها، وهو الإجراء المنطقي للحيلولة دون خلق ذرائع الحشد الشعبي لها، يتضح أن تلك الدعوة اتفق أغلب المصريين على تأييدها، ولكنهم أيضاً شككوا في قدرتها على النجاح، خاصة مع آلة القمع المتوحشة التي قد تجابهها، بحيث جعلتهم يحددون إمكانية نزولهم لها بناء على إجابة السؤال الأهم فيها وهو: مَن دعا إليها؟ وهو السؤال الذي بناء على إجابته سيعرفون مدى القمع الذي قد يلاقونه.

وهناك أربعة تفسيرات لثورة الغلابة، تفسيران منها يؤكدان أنها حركة أطلقتها قوى الأمن، وتفسير ثالث يقول إنها حراك ثوري بحت، أما الرابع فهو تفسير السلطة لها بـ"المؤامرة".


تصحيح مسار


التفسير الأقوى يقول إنها حركة أسستها قوى من داخل السلطة مناهضة لوجود عبد الفتاح السيسي في الحكم لأسباب كثيرة، إما لفشله، وإما لتزايد الغضب الشعبي عليه، ما ينذر بثورة عارمة تقتلع كل النظام العسكري وربما للأبد، وإما لأنها جعلته يتخذ كل القرارات الاقتصادية الصعبة التي كانت تود اتخاذها وخلقت بها أمراً واقعاً، ثم جابهت حالة الرفض لها بتغييره هو وليس تغييره وإسقاط قراراته معه التي ستجد السلطة الجديدة وقتها مبررات لاستمرارها، مع تقديم حزمة من الإغراءات الشعبية في مجال الإفراج عن المعتقلين، وإسقاط حزم القوانين الجائرة التي تكبل الحريات، وتسلب حقوق المعارضين.

ويساعد هذا الفرض وقائع كثيرة تؤكد أن الجيش هو من خطط للإطاحة بمبارك في ثورة يناير/كانون الثاني، وخطط أيضاً للإطاحة بمرسي في انقلاب يوليو/تموز، وبنفس الطريقة لا مانع أيضاً من أن يخطط للإطاحة بالسيسي في نوفمبر/تشرين الثاني، فضلاً عن كلام يتحدث فيه مصريون كثر -لم أعرف مدى صحته- بشأن علاقة اغتيال العميد الشهيد عادل رجائي، قائد الوحدة المدرعة بدهشور التي سيطرت على القاهرة في ثورة يناير وانقلاب يوليو من قبل، بهذا المخطط، واستغلال الإجراءات الاقتصادية كعوامل تحفيز للثورة، ثم ظهور البرادعي مجدداً بتغريداته حول مجزرتَي رابعة والنهضة، ودعوة المصريين للتوحد، وهو الظهور الذي يسبق التغييرات الكبيرة في السلطة في مصر، وهي التغريدات التي تبعها أيضاً تقرير البرلمان البريطاني الذي برأ الإخوان من الإرهاب، ما يعني ضمنياً تكذيباً لنظام السيسي الذي وصفهم بالإرهاب، وراح يعمل فيهم السيف بناء على ذلك، وكل ذلك يتوافق مع نفور سعودي خليجي واضح من عمليات دعم السيسي التي ظهرت أنها بلا جدوى، ولن تتمكن من إنقاذه من وحلته، فضلاً عن تفاصيل أخرى يصعب أن نناقشها في هذا المجال.

استعراض للقوة

أما السيناريو العسكري الثاني فهو أن نظام السيسي نفسه هو من أطلق تلك الدعوات، وقد سبقها اتخاذه القرارات الاقتصادية وكان الهدف من ذلك إرسال رسالة للداخل والخارج وحلفائه الغربيين بأنه يقبض على زمام البلاد جيداً ولا خوف من الثورة عليه، وعليهم دعم نظامه بالمساعدات اللازمة لإنجاحه بدلاً من الندم على تفريطهم السريع فيه، وأن فكرة انهياره لأسباب تعود للداخل بعيدة المنال.

كما أن البعض الذي يروج لهذا الطرح يقول أيضاً إنه قد يتخذها ذريعة للتخلص من معارضيه جملة وتفصيلاً، ويعمل فيهم السيف والرصاص، مع تبرير نزول الجيش للميادين مجدداً حتى مرور ذكرى ثورة يناير العام المقبل، ويكبح من خلال ذلك أي رفض لارتفاع الأسعار، ويضمن أيضاً استقرار سعر صرف الدولار، وتقبل الناس لذلك.


حراك ثوري


أما ثالث التفسيرات فهو أنها حراك ثوري بحت جاء احتجاجاً على السحق غير المسبوق للفقراء، والتردي غير المسبوق أيضاً في الحريات، والاستهانة البالغة بالحياة الإنسانية للمصريين، ورغم أن تلك المبررات وجدت أصلاً منذ أن وجد الانقلاب، فإن الجديد هنا هو انضمام طوابير هائلة جديدة من المسحوقين البسطاء الذين كانوا يمثلون كنزاً استراتيجياً للثورة المضادة إلى صفوف الثورة، ويجب هنا استغلالهم للسير في المسار الصحيح، بدلاً من المسار الخطأ، بما يخدمهم ويخدم معهم الوطن.

مؤامرة


ويبقى أيضاً التفسير الرابع المعتاد الذي تطلقه كل السلطات الاستبدادية في العالم تجاه دعوات معارضيها بأنهم قلة مأجورة متآمرة تستغل عمليات التحول الديمقراطي والبناء الاقتصادي التي تمر بها البلاد لإثارة الفتن والقلاقل من أجل إعاقة نجاحاتها، وتدعمها في ذلك قوى خارجية.

وتفوق النظام الحاكم في مصر على أقرانه الدوليين بالتأكيد بأنها تأتي في إطار مؤامرة يقودها مجلس إدارة العالم "الخفي" ضد مصر وضد قيادتها الحكيمة.

عموماً مثل هذه الأكليشيهات خفت بريقها، وفقدت داعميها من هزلية تكرارها، وبسبب الانفتاح الإعلامي ومواقع التواصل الاجتماعي.

18 نوفمبر 2016

سيد أمين يكتب : الافرازات الضارة للديمقراطية

آخر تحديث : الجمعة 18 نوفمبر 2016   21:08 مكة المكرمة
فجر الزلزال المدوى الذى أفرزته الانتخابات الأمريكية ، ووصول مرشح صاحب توجهات عنصرية لا تتفق مع معاييرالديمقراطية إلى كرسي حكم العاصمة التى تقود الكون تقريبا، عبر وسائل ديمقراطية خالصة، تساؤلات مدوية في شرق العالم وغربه حول الإفرازات الضارة المحتملة للديمقراطية ونظام حكم الأغلبية.
وهذا النتاج ليس الأول من نوعه حيث يشهد التاريخ أن الزعيم القومى أدولف هتلر وحزبه النازى– اختصارا لكلمة حزب العمال الاشتراكى الوطنى- الذى تسببت قيادته لألمانيا في اندلاع ثانى الحروب العالمية ومقتل نحو مئة وخمسين مليون شخص حول العالم ، صعد للحكم بانتخابات ديمقراطية خالصة، بل وحاز فيها على نسبة 84.6% من الناخبين، لكن ذلك قد ساعده فيه الغبن القومى الذى وقع على الألمان جراء الوصاية التى فرضتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.
كما أن اليميني الإيطالي المتطرف أندريا موسولينى زعيم الحزب الفاشي– حزب العمال والجنود – قد وصل للحكم تحت رعاية ديمقراطية واسعة ليشارك في كبريات المآسي الانسانية في ليبيا والحبشة ويكون قطبا من أقطاب الحرب العالمية الثانية.
ولكن قبل الحديث عن أخطاء الديمقراطية ينبغي بداية رثاء حالنا ، فبينما نحن في القرن الحادى والعشرين، نناضل في وطننا العربي للوصول لحالة ترسيخ تعريفها والإقناع بها، نجد أن الديمقراطية التى أسس لها نظام الحكم الأمريكى وحلفاؤه الغربيون منذ مئتى عام تقريبا أو يزيد، قد تجاوزت حالة الرسوخ في وجدان الناس لدرجة أنها لما تمكنت من افراز أسوأ منتجاتها احترموها، وعملوا أيضا على تهذيبها وتجنيب مخاطرها حتى وإن كانت شطحاتها لا تمسهم هم بالأذى، وأسقطوها بالديمقراطية وليس الانقلاب.

عيوب الديمقراطية
للديمقراطية أخطاء وعيوب لا شك، والتى من أخطرها مثلا أنه من الممكن خداع الجماهير وتضليلها تحت دعاوى زائفة وتحفيزها لاتخاذ مسارات مغايرة لتلك التى تؤمن بها أو ترغبها أو تلبي احتياجاتها فعلا، واستغلال جهلها أو حاجتها المادية أو اكراهها بالقوة أو بالحيل وبالحرب والإكراه النفسي للتصويت في صناديق الاقتراع في اتجاه معين.
ولذلك فان الديمقراطية تحتاج من ضمن أهم ما تحتاج درجة كاملة من الوعى والمعرفة والحرية ، وبدونهم ستكون كل تصرفات العمل الديمقراطى نوعا من أنواع التزوير، الذي يحرم المواطن من معرفة الحقيقة كاملة ثم يقدم له الاختيارات مشوهة ليختار من بينها.
كما أن للديمقراطية أيضا عيب أخر أكثر خطورة وهو ما يمكن أن نسميه بـ"عيوب المساواة المطلقة في الأمور المتخصصة"، فمثلا لو أجرينا استفتاءا حول اللجوء لاستخدامات الطاقة الذرية في مصر هنا يصبح من المضحك أن نساوى بين رأى الفلاح أو العامل أو الصحفي أو المدرس مع رأى عالم الفيزياء أو الكيمياء أو المهندس ، وحتى في الشأن العام بكل تنوعاته ، قد يكون من المخزى المساواة بين رأى من يملك وعيا  وبين من لا يملكه ونسوى بينهما في صندوق الانتخاب على ندرة "الواعين".
وأيضا من أبرز عيوب الديمقراطية ونظام حكم الأغلبية ما يمكن تسميتها بـ"ديكتاتورية الأغلبية " والتى تجعل الأغلبية تفرض ارادتها على الأقلية ، حتى إن قاربتها في أعدادها، وإن صحت وجهة نظر الأقلية ، وتجارب التاريخ في ذلك تشهد.

خيار لابد منه
تأول النظم المستبدة - وهى كثيرة في وطننا العربي المنكوب – مثل تلك الانتقادات وتنزعها نزعها من سياقها لتتخذها ذريعة فلسفية للانقضاض على الديمقراطية ولتسويغ استبدادها.
ومن العجب أنه في اطار الرسائل المتتالية التى تبعث بها تلك النظم إلى الغرب للتأكيد بأن شعبنا العربي يرفض الديمقراطية التى لن تأتى إلا بأعدائه ، وأنه يدافع عن الزعامات العسكرية ومقتنع بها ، استغلت السلطة العسكرية الحاكمة في مصر في خمسينيات القرن الماضى جهل الجماهير وراحت تحشدهم للنزول بالملايين للتعبير عن رفضهم للديمقراطية والهتاف ضدها بوصفها بدعة استعمارية جديدة ، يا للخجل.
كل مثل تلك الهرطقات في الواقع هى في سبيل اللغو المردود عليه بأن خطأ أفرزته حركة ديمقراطية هو خير من صواب أفرزه حكم مستبد، لأن الديمقراطية تصوب توجهاتها وتحمى مبادئها، المهم أن تتمسك الشعوب بها.
 الفلسفة الغربية ناقشت مثل تلك الاشكاليات قبلنا بمئات السنين، وبعد دمار شديد عاشته الحضارة الغربية كذلك الذى تعيشه أمتنا العربية الآن جراء الصراع بين الجديد والقديم، استقر في وجدان الناس أنه لا خلاص للبشرية سوى الاحتكام لإرادة الشعوب واحترام أفكار الناس جميعا وعقائدهم وحقهم في الحكم ، وما أن ترسخ هذا الوعى حتى قفزت أوربا من الظلام إلى النور.
جاء ذلك رغم أن الاستبداد في عصور الظلمات الغربية لم يكن تحت رعاية عسكرية فحسب كما هو حالنا، ولكن كانت سلطة الكنيسة الدينية الروحية أشد جلدا لظهور الناس من سياط الحاكم المستبد ونبلائه ونخبته، وهو ما يعنى بشكل جازم أن العبء الملقي على ظهور دعاة الديمقراطية في مصر والوطن العربي أقل بكثير من العبء الذى ألقي على كاهل المواطن الغربي في عصوره الوسطى، ما يعنى أيضا أن امكانات النجاح هنا أعلى وأكبر لكوننا نواجه فاشية واحدة لا فاشيتين.
أعتقد أنه رغم قساوة المشهد الدموى والفوضوى الذى تعيشه أمتنا العربية الأن، ورغم التعثر والإحباط، فإن المستقبل محسوم للديمقراطية بلا شك.

لقراء المقال على الجزيرة مباشر اضفط هنا

16 نوفمبر 2016

زهير كمال يكتب:قراءة في الانتخابات الأمريكية

كانت نتائج الانتخابات الأمريكية لعام 2016 محيرة ومدهشة ومثيرة للصدمة لكثير من المتابعين لما تحمل من نتائج مؤثرة على كل الصعد في هذا العالم بعد ان أصبحت الكرة الارضية قرية كبيرة ، فكل قرار يصدر عن ساكن البيت الأبيض يؤثر حتى على المستوى الشخصي للفرد أينما عاش في هذا العالم.
عندما لا يعتقد سيد البيت الأبيض مثلاً أن هناك تغيرات خطيرة في المناخ بفعل النشاط الإنساني أو ما يطلق عليه زيادة الانبعاث الحراري ثم لا يفعل شيئاً ، فإن العواصف والأعاصير وموجات التسونامي قد تدمر الحياة في أقصى جنوب شرق آسيا، أو ستعمل على اختفاء جزر بأكملها كما يحدث الآن مع جزر المالديف في المحيط الهندي بفعل ذوبان الثلوج بنسب خطيرة وغير معهودة في القطبين الشمالي والجنوبي.
أما إذا اتخذ قرارات سياسية سيئة تؤثر على الاقتصاد فإن حياة الفرد في إفريقيا أو آسيا قد تتأثر بارتفاع سعر الدولار أو انخفاضه.
وقد يستطيع اتخاذ قرار حرب ضد بلد ما فسنجد القنابل تنهمر على رؤوس السكان وتحصد أرواحهم بدون ذنب جنوه.
يركز المرشحون للرئاسة الأمريكية على الاقتصاد وعلى ما سيفعلون لتحسين حياة ناخبيهم، وقد يظهرون مساوىء الرئيس الحالي وكيف أنه يصدّر الوظائف التي من حقهم وحق أبناءهم الى الخارج سواء الى الصين أو المكسيك أو الى البلاد الأخرى التي تستثمر فيها الشركات الأمريكية التي تبحث عن الأيدي العاملة الرخيصة لتزيد من أرباحها.
أما الموضوع الثاني المفضل فهو تخويف الناس من الإرهاب والتطرف وبخاصة التطرفالإسلامي.
وهناك الأوضاع العالمية الأخرى ولكنها تعتبر ثانوية للناخب الأمريكي العادي.
ولم تخرج انتخابات العام الحالي عن هذا النمط وقدم كل مرشح تصوراته لمعالجة هذه المسائل.
ولكن لو تناولنا المسألة الاقتصادية لوجدنا أن الموضوع ليس حاداً كما يتصور بعضهم بل على العكس فإن هذا الاقتصاد العملاق قد تعافى من نزيف فترة رئاسة بوش وحروبه الكارثية ، والمواطن العادي يلمس هذا التحسن الطفيف والمستمر ، فنسبة التضخم ضيئلة وبعض السلع قد نقص سعرها وبخاصة البنزين الذي انخفض سعره الى النصف تقريباً بفضل الاكتشافات النفطية في داخل أمريكا التي مكنت الولايات المتحدة من الاستغناء عن الخارج. ويضيف الاقتصاد شهرياً من مائة ألف الى مائتي ألف وظيفة. ونسبة البطالة معقولة وعادية.
وهكذا فإن أي رئيس منتخب سيجد وضعاً مريحاً على المستوى الداخلي إذا استمر في نفس السياسة الاقتصادية القائمة حالياً.
أما بالنسبة للأمن فالمواطن الأمريكي لا يشعر بأي تهديد خارجي مثلما يحدث في أوربا القريبة من مراكز الصراع في الشرق الأوسط ، ويدرك هذا المواطن أن هذه المنظمات الإسلامية المتطرفة إنما هي صناعة مخابراته وتصب في نهاية المطاف لمصلحة أمريكا وإسرائيل، وأما الحوادث المتفرقة التي تشهدها الولايات المتحدة فهي ليست أسوأ من حوادثالقتل بالجملة التي تحدث بعض الأحيان في مدارس الولايات المتحدة.
في تحليل نتائج الانتخابات الأمريكية وفوز دونالد ترامب بالرئاسة ، علينا دراسة الأعداد التي تقوم بالانتخاب ، وسنجد نتائج مذهلة ، فالأرقام لها لغتها الخاصة التي تكلمنا إن درسناها.
لن نرجع كثيراً الى الوراء وحسبنا دراسة أرقام الانتخابات الخمسة الأخيرة، أي منذ عام2000 وحتى اليوم. لنجد أن المرشح الجمهوري بغض النظر عن الاسم قد حصل على ما يقارب ستين مليون ناخب بشكل دائم ، ما عدا سنة 2000 التي حصل فيها جورج بوش الابن على خمسة وخمسين مليوناً مقابل نفس العدد لآل غور.
ونستطيع القول إن هذه كتلة صماء تصوت للمرشح الجمهوري كائناً من كان، وهذه الكتلة موجودة في ولايات الداخل الأمريكي.
انتخبت هذه الكتلة جورج بوش الإبن مرتين بالرغم من معرفتها بحماقاته وبإدارته السيئة للاقتصاد، وها هي تنتخب دونالد ترامب بكل الصفات التي تتداولها وسائل الإعلام عنه ،والأدهى أنها تغاضت عن تقديمه للكشف الضريبي الذي يعتبر عملاً مقدساً بالنسبة للانتخابات الأمريكية.
وفي المقابل نجد أن ولايات الساحلين الشرقي والغربي عادة ما تصوت للحزب الديمقراطي.
وإذا استطاع المرشح الديمقراطي زيادة عدد الناخبين الى أكثر من ستين مليوناً كان البيت الأبيض من نصيبه ، وقد لاحظنا ذلك في حالة باراك أوباما الذي حصد أكثر من 69 مليون ناخب في العام 2008 و65 مليوناً في العام 2012. واستطاع تحويل بعض الولايات الجمهورية الى ديمقراطية. وتخطى حاجز ال 270 صوتاً للمجمع الانتخابي لكل الولايات.
بينما نجد أن جون كيري وهيلاري كلينتون لم يتجاوزا حاجز 60 مليوناً في انتخابات 2000 وانتخابات 2016 على التوالي ، وفشل كلاهما في ضم أية ولاية جمهورية الى رصيده.
ماذا يختلف المرشحون الديمقراطيون عن بعضهم عن بعض؟
إنها قوة الشخصية والرسالة التي يحملها المرشح والتي تجعل الناخب يذهب الى الإدلاء بصوته.
آل غور وجون كيري وهيلاري كلينتون شخصيات سياسية باهتة لا تحمل أي جديد ولا تبث الحماسة في وسط الجماهير. بينما نجد أن أوباما رغم أنه أسود واتهم بأنه مسلم ووصل التشنيع عليه الى حد القول إنه غير مولود في الولايات المتحدة، بما يخالف الدستور الأمريكي، استطاع أن يستغل فشل سلفه بوش وقدم رسالة قوية ورفع شعاراً أصبح الجميع يردده خلفه، شعار ( نعمنستطيع)، وربما كانت انتخابات 2012 التي فاز فيها أوباما أكبر دلالة على بحث الجماهير عن شخصية قيادية تتمتع بالكاريزما.
هل كان من الممكن للحزب الديمقراطي أن يحافظ على سيطرته على البيت الابيض هذا العام؟
نعم، لو قدم مرشحاً قوياً مثل بيرني ساندرز ، رغم اتهامه من قبل الجمهوريين بالتطرف والاشتراكية.
من فينة لأخرى يقدم الحزب - كونه ممثلاً للطبقة الوسطى في المجتمع الامريكي - بعضالوجوه اللامعة مثل هوارد دين وبيرني ساندرز ولكن سرعان ما يتلاشون ولا يصلون الى النهاية حيث تحاربهم بيروقراطية الحزب المتحالفة مع رأس المال.
فالجماهير وبخاصة الشباب تبحث عن رسالة وهدف، لم يجدوه في هيلاري كلينتون ، فتقاعسوا عن الذهاب الى صناديق الانتخاب، ولقنوا الحزب درساً لن ينساه، فقد سيطر الجمهوريون على الكونغرس بمجلسيه أيضاً.

ترامب والعالم:
ربما كان دونالد ترامب آخر محاولة من الرجل الأبيض لوقف التحولات التاريخية التي تجري في الولايات المتحدة والعالم ، وفي العادة فإن مرشحي الحزب الجمهوري يميلون عادة الى سياسة العزلة ، ولكن ترامب بز أقرانه في هذا الشأن ، فقد أظهر في كل مداخلاته أنه يسبح ضد تيار العولمة ، هذا التيار الجارف الذي لا يستطيع أحد إيقافه ، وسيكون مصير أية محاولة لوقف التطور الجاري هو الفشل .
ولعل مثال جنوب إفريقيا وسياسة التمييز العنصري التي كانت تتبعها هو خير مثال على عدم اتباع منطق العصر الذي نعيشه فكان مآلها الانهيار . والأمر نفسه سينطبق على إسرائيل
وسياسة التوسع الاستيطاني وسرقة أراضي الفلسطينيين حيث ستلاقي نفس المصير ، فهي لاتسير مع منطق العصر .
وخير مثال على سباحة ترامب ضد التيار هو سياسته في شأن الهجرة ، فكما هو متوقع فإن اللغة التي ستسود في الولايات المتحدة في عام 2050 هي اللغة الإسبانية ، فنسبة توالد المهاجرين من أصول إسبانية تفوق بكثير نسبة توالد المهاجرين من أصول أوروبية، كما أن بناء جدار مع المكسيك هو محاولة عقيمة لوقف الهجرة من الجنوب الى الشمال، ربما ينبغي له أن يحاول تحسين اقتصاديات بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية بهذا المبلغ الضخم والمقدر بـ 11 مليار دولار ، فلا يمكن إغفال أن استغلال هذه البلاد من قبل الشركات الأمريكية قد تركها دولاً فقيرة ومعدمة ، ولكنه بالطبع لا يعتقد بحلول طويلة الأمد كهذه، فبحسب طريقة تفكيره فالولايات المتحدة ليست مؤسسة خيرية.
وسيكون موضوع بناء الجدار هو أكبر محك لرئاسة دونالد ترامب فقد وعد ببناء الجدار بأموالجمهورية المكسيك ، الأمر الذي سترفضه ، ولكن ربما سيحاول الالتفاف على الأمر بجعل الحكام العرب يدفعون تكلفة بنائه.
وهناك مثل آخر يتعلق بمحاولة إرجاع المصانع الأمريكية التي تعمل في الدول الأخرى ، وهويدل على عدم فهم للاقتصاد العالمي وتحولاته ، ويعتقد ترامب أن تشجيع الأغنياء بإعطائهم محفزات ضريبية ستجعلهم يفتحون المصانع في داخل الولايات المتحدة، ولكن نسبة الأرباح التي يجنونها بالوضع الحالي تفوق عشرات المرات كافة التخفيضات التي سيقترحها وإنما ستجعل الأغنياء يزدادون غنى ، وسيكتشف بعد أربع سنوات أنها كانت محاولة يائسة فقد تمت تجربتها في بداية عهد سلفه بوش وأدت الى انهيار الاقتصاد الأمريكي.
أما بالنسبة الى المنطقة العربية، فسيكون التعامل معها سهلاً له ، فحكومات هذه المنطقة تابعة ذليلة للسيد الأمريكي ، وتستمد حمايتها منه ولن تمانع بالتضحية بما تملك من أجل رضى الأمريكي واستمرار بقائها في الحكم. وقد ينجح ترامب في نقل السفارة الأمريكية الى القدس بدون أية معارضة تذكر، بعكس كل أسلافه الذين وعدوا أثناء حملاتهم الانتخابية ثم لم ينفذوا عند وصولهم الى البيت الأبيض.
وأخيراً فإن كافة الاحتمالات الخطرة على مستقبل الولايات المتحدة والعالم قائمة في عهدالرئيس ترامب ، فعلى مستوى الولايات المتحدة فإن مطالبة بعض الولايات خاصة في الساحلالغربي بالانفصال تصبح واردة إذا اتبع سياسات متهورة مثل إلغاء التأمين المجاني للفقراء .
أما على مستوى العالم فاستعمال السلاح الذري وارد أيضاً. الأمر الذي لا يتمناه أحد، والذي أصبح التهديد المجرد به أمراً غير مستساغ.
فهل سيتبع دونالد ترامب منطق التاريخ ؟ هذا ما ستكشف عنه فترة رئاسته البالغة أربع سنوات.

08 نوفمبر 2016

كارم يحيى يكتب: المتلاعبون بالعقول والجيوب

الاهرام حذفت  اليوم اجزاءا من هذا المقال  هاجم فيها الكاتب الشهير بتوجهاته اليسارية والحقوقية السياسة الاقتصادية للنظام ..ونحن هنا نعيده كاملا
للمفكر الأمريكي التقدمي هربرت شيللر كتاب متميز بعنوان " المتلاعبون بالعقول" ترجمه الى اللغة العربية مثقفنا الراحل عبد السلام رضوان في منتصف الثمانينيات. وهذا الكتاب مع أنه صدر بلغته الأصلية الإنجليزية عام 1974 إلا أن إعادة قراءته والى الآن تمنح منهجا علميا ومفاتيح معرفية تحليلية لفهم أساليب الإعلام تضليل الجمهور وخداعه في مجتمع رأسمالي يسوده المال و الربح والتسلط ، سواء بالنسبة لوعي هذا الجمهور بهمومه وواقعه المحلي أو بالعالم والمجتمعات الأخرى .وثمة فصل ممتع بالكتاب في تشريح المنطق الاستعماري لمجلة " ذا ناشيونال جيوغرافي" الأمريكية الشهيرة ، بل والعنصري أحيانا.
ولعل ما استقر في ذهني منذ قرأت هذا الكتاب حين نشرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية في طبعته الأولى أكتوبر 1986 هو هذا الارتباط الوثيق بين إهانة العقل والاستخفاف بالتفكير العلمي وبين احتقار الناس. وهو ما وجدت له شواهد بلا حصر في مجتمعنا هنا وبخاصة في هذه الأيام. خذ على سبيل المثال هذه المعالجة السائدة لأزمة الدولار والجنيه والقرارات المالية والاقتصادية الأخيرة . كيف يتم تجزئة المعلومات وبترها وتغييبها على غرار ماكشف عنه شيللر في تحليله لنشرات أخبار قنوات التلفزيونات الأمريكية الكبري.وهذا حين لانستدعى من الذاكرة ولانطرح أسئلة من قبيل : لقد صدر قرار مماثل بتخفيض العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي في مارس الماضي ، فلماذا استمرت السوق السوداء وجنون ارتفاع قيمة العملة الأجنبية ؟. وما الذي يحول دون تكرار السيناريو نفسه ؟ . وأليست قيمة وقوة العملة تعكس حال الاقتصاد و الإنتاج ؟ ،و ماهي خبرتنا السابقة وخبرات الشعوب الأخرى مع صندوق النقد والبنك الدوليين ؟ وكيف كانت العواقب ؟ ،وألا توجد سياسات واجراءات بديلة لهذه الروشتة الرأسمالية المكرورة من غلاء أسعار السلع الأساسية و سحق الفقراء والطبقة الوسطى و خصخضة الشركات والبنوك العامة وتخفيض قيمة العملة الوطنية ؟ .وهل من المنطقي الحديث عن أسعار عالمية بدون أجور عالمية ؟،وهل من المفهوم الأخذ بالاقتصاد الرأسمالي الفج من دون نقابات قوية ومجتمع ديموقراطي ؟،وهل الإصلاح الاقتصادي محض اجراءات مالية فنية تقنية منزلة علينا بحكمة أيديولوجية رأس المال المدعاة أم أنها وبالأساس اختيارات سياسية وتحيزات اجتماعية لصالح فئة على حساب فئات ؟ ومن يدفع فاتورة الإصلاح وكيف يتقاسم الناس أعباءها ؟ . وبالأصل هل حقا هو " الإصلاح " أم إنه شئ آخر؟ . وألا تعكس حجة أنه (لابديل ولامفر عن هذا الدواء المر ) قصورا في التفكير و استهانة بالعقل وإهدارا للبدائل تماما كما يستخدم الصهاينة العبارة نفسها لتبرير مذابحهم وطردهم للشعب الفلسطيني من أرضه؟ .
وخذ على سبيل التحديد ما نشرته صحيفة " الأخبار " في أعلى صفحتها الثالثة أمس الأول الأحد نقلا عن نائب في لجنة حقوق الانسان بالبرلمان عن أن السجين عندنا يتقاضى أجرا مقداره سبعة جنيهات نظير يوم العمل الواحد ، يحصل على نصفه سلعا من " كانتين " السجن ونصفه الآخر نقدا ، وقوله أن "هذا يعني امكانية قيام المسجون بإعالة اسرته من داخل السجن ". بل أن سيادة النائب ذهب الى أن هناك سجينا كون ثروة مقدارها 30 ألف جنيه .هكذا من ثلاثة ونصف من الجنيهات ( أي أقل من ربع دولار بأسعار البنوك الآن) يتقاضاها عن كل يوم عمل . والحقيقة أن هذه الدقة في الحساب مذهلة وخارقة للعادة إذا ما تبينا أن الصحيفة ذاتها وفي الخبر نفسه نقلت عن عضو بلجنة الخمسة المنوط بها فحص حالات الشباب المحبوسين أنه لا إحصاءات عن أعدادهم ولا قوائم بأسمائهم.
ولست بحاجة لأن استعرض نماذج أخرى ـ هي للأسف بلا حصر ـ عن الاستخفاف بالعقول واحتقار الشعب .يكفى تصريح أحد رجال الدين بأن على المصريين أن يتحملوا و يأكلوا ورق الشجر إذا أعيتهم الأزمة الاقتصادية. هكذا قال في القرن الحادي والعشرين . وما يلفت النظر بشكل عام هو حالة التهجم على الشعب واحتقاره التي أصبحت أشبه بهستيريا يقودها أوكسترا غير سيمفوني . وكأنه لايكفي الناس معاناتهم في كل أوجه المعيشة . وحالة الهستيريا هذه تستفحل كلما زاد التلاعب بجيوب الناس .وكأنه لايكفي ما يتحملونه من معاناة . بل يجب أن يقترن الأمر بإهانتهم والتلاعب بالعقول . وأختتم هنا بملاحظتين :الأولى أن الموجة الأخيرة من احتقار الشعب وإهانته مهد لها البعض بكلام كثير عن أن ثورة 25 يناير هي السبب في معاناة الناس الاقتصادية وغير الاقتصادية . وبالتالي يحق التشفي فيمن ثاروا وتخويفهم من العودة الى طلب التغيير. وهو أمر ينطوى إلى جانب إهانة الشعب على تلاعب سافر بالعقول واستخفاف بها . هذا على الأقل لأن السؤال المسكوت عنه هنا : وهل تغيرت السياسات تسببت في معاناة الناس ودفعتهم للثورة؟ . والملاحظة الثانية أن عدد المواطنين الذين يتحدثون الى أنفسهم بصوت مرتفع في الشوارع الى زيادة.وهو حديث لايخلو أحيانا من العراك مع الذات . وهذا تماما كما كان عليه الحال في السنوات الأخيرة لعهد مبارك . وهي ظاهرة بدا أنها اختفت مع 25 يناير وفي اعقابها قبل أن تعود من جديد.

06 نوفمبر 2016

سيد أمين يكتب : تساؤلات حول "غضبة" سامح عاشور

*نقلا عن مصر العربية
موقف محترم ذلك الذي تتخذه نقابة المحامين المصريين ونقيبها الأستاذ سامح عاشور بحق ضريبة الدمغة المضافة وتصدرها رفض المجتمع لهذا النوع من الجباية المقننة.
وفي الحقيقة هذا الموقف ليس مستغربًا بتاتًا على نقابة محامي مصر، فهي التي ناضلت دفاعًا عن سيادة القانون نضالاً شرسًا في أحلك فترات الظلام، ومنها مقاومة الاحتلال الإنجليزي والاستبداد العسكري ما بعد خمسينيات القرن الماضى.
ولعبت أدواراً بارزة في الحياة السياسية ، فكان معظم قيادات مصر من خريجي كلية الحقوق ومنتسبي تلك النقابة التي كان الانتساب إليها، وربما ما زال مدعاة للفخر والشرف، وهو ما يفسر الارتباط التاريخى بين تلك النقابة والعمل السياسي والحزبي، ولعل ذلك ما تسبب في نشوء صدام دائم بينها وبين السلطة أدى إلى قيام الأخيرة بحلها بأمر مباشر ثلاثة مرات، الأولى سنة ١٩٥٤ بسبب صدام بين المجلس وبين قادة حركة يوليو، والثانية سنة ١٩٧١ بسبب رفضها الاعتراف بما أسميت بـ"ثورة التصحيح"، والثالثة سنة ١٩٨١ بسبب رفضها توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
كما فرضت الحراسة القضائية عدة مرات عليها كان أبرزها في عام 1995 بعد نشوب أزمة بينها وبين والحكومة، على خلفية مقتل محامٍ داخل قسم شرطة، انتهي بالقبض على 3 محامين في النقابة
اندهاش مستحق
كل ذلك ليس غريبًا على نقابة المحامين قلعة الحريات الأول في مصر، ولكن المستغرب هو أن يتحول موقف نقيبها الأستاذ سامح عاشور هذا التحول الكبير من نظام الحكم القائم، خاصة أنه كان واحدًا من أهم رجالات هذا النظام، والتزم الصمت تجاه كل الانتهاكات المروعة والقضايا المصيرية التي ارتكبها هذا النظام.
الاستغراب مستحق أيضًا لأن القضية التي ثار لها الرجل لم تكن بذات الشأن من الفداحة والأهمية التي نالتها قضايا أخرى في المجتمع تستدعى الثورة اللانسانية المهدرة أو حق الإنسان الأساسي في الحياة، والتي أهدرته سلسلة المذابح الأكبر في كل تاريخ مصر والتي جرت في الأعوام الثلاثة الماضية مثل رابعة والنهضة ورمسيس1و2 والمنصة والحرس الجمهوري وغيرها.
ولم تكن أيضًا قضية تمسّ تقييد حقوق وحريات المجتمع تستدعى معارك قانونية هو ونقابته أهل لها ولكنهم صمتوا عنها، والتي مثلتها قوانين تحضّ على العنصرية والإقصاء مثل قوانين "الارهاب"، والكيانات الإرهابية، وقوانين التظاهر، وتقييد الجمعيات الأهلية ، ومنظمات المجتمع المدني، والحق في التجمع، وتبادل المعرفة، والحق في الاحتجاج والإضراب.
ولم تكن أيضًا قضية كرامة وطنية، فقد التزم الصمت في قضايا التنازل عن جزيرة "تشيوس" المصرية وحقول غاز أخرى في البحر الأبيض لليونان، وما يتردد عن سيطرتها أيضا على المناطق المقدسة في سانت كاترين بسيناء، ولم تثره أيضًا قضية تيران وصنافير، ولا بيع ملايين الكيلومترات لدول أجنبية وعربية ، ولا أفواج المفتشين الأجانب على المطارات والموانئ ، ولا التنازل عن مياه النيل التي تمثل الشريان الحيوي لمصر.
ولم تأتِ في إطار قضية الصراع العربي الاسرائيلي الذى صمت حيالها النقيب "الناصري" بينما السلام الدافئ مع إسرائيل يتسارع ويترسخ ويأخذ مشروعية، ووفود المطبعين تمتد، وحصار الشعب الفلسطيني يشتد.
ولم تكن حتى قضية نقابية، ما كان لأحد أن يلومه أبدًا لو صال وجال فيها، فهي نقابة الحقوق والحريات وهو نقيب دعاة الحقوق والحريات المخول به وبها قبل الدفاع عن حقوق المجتمع كله أن تدافع بشراسة عن حقوق أعضائها أولا، وهو ما لم يحدث للأسف، فبحسب إحصائيات منظمات حقوقية يوجد نحو 250 محاميًا معتقلاً بعضهم ينتظر الاعدام، وهناك مئات المحامين هاربون خارج البلاد وداخلها خوفا من محاكمات غير عادلة، وهناك قوانينا تسن للتضييق على العمل الحقوقي والقانوني.
وهناك محامون تعرضوا للقتل تعذيبًا في أقسام الشرطة، نرجو أن تكون تبرئة قاتل أحدهم تزامنًا مع غضبة النقابة على قانون الدمغة المضافة جاءت من قبيل الصدفة وليس السخرية والتحدي، أو حتى المساعدة في صناعة صورة ذهنية عن صدقية هذا الصراع بين النقابة والنظام.
تفسيرات منطقية
"لفت الانتباه" و"تجزئة الغضب" و"الاعتماد على الغير" هي من "تقنيات" العمل السياسي والدعائي الذى تستخدمه السلطة للسيطرة على الصراع، وحرفه عن مساراته الطبيعية، لعلّ فهمها وفهم تقنيات الدعاية الأخرى يمكن يفسر لنا ما يجري في نقابة المحامين الآن.
حيث يتيح أسلوب "لفت الانتباه" للسلطة أن تحول اهتمام الجماهير إلى مسارات بديلة تشغلهم عن القضايا الأهم، وهو أسلوب صار مبتذلاً ومفهومًا للكثيرين من العامة نظرًا لفرط استخدامه، فيما يقوم أسلوب "تجزئة الغضب" بتفريغ شحنة الغضب الجماهيري على مراحل ما يفقده قوته الكاسحة، ويأتي أسلوب "الاعتماد على الغير" من أخطر تلك الأساليب حيث يهدف إلى استثمار مناخ الخوف السائد في المجتمع والذى تمت صناعته بجدارة، إلى دفع الجماهير إلى التكاسل والاتكالية والاعتماد على حراك يقوم به غيرهم في إبراز غضبهم، دون أن يدركوا أن النوايا الحقيقية لبعض ممن يقومون بهذا الحراك "المستأنث" هي دفعهم للاعتراف بالهزيمة والتعايش مع الأمر الواقع.
في إطار نظرية المؤامرة، وهى في الحقيقة نظرية محترمة، قد يكون ذلك تفسيرًا لما يجري في نقابة المحامين، وقد يكون أيضًا تعبيرًا عن صراع بين الأجهزة، وقد يكون ذلك قفزًا من سفينة السيسي الغارقة.
كل ذلك محتملاً في تفسير تلك "الغضبة" إلا تفسيرًا واحدًا أنا شخصيا أستبعده، وهي أن تكون انتفاضة ضد ضريبة الدمغة المضافة.